قصص أسيرات فلسطين- مقاومة الظلم وإلهام الأمة العربية.

المؤلف: د. سليمان صالح08.09.2025
قصص أسيرات فلسطين- مقاومة الظلم وإلهام الأمة العربية.

تشجيع الأسرى الفلسطينيين على سرد حكاياتهم يمثل سلاحًا فعالًا في معركة الحق ضد الباطل، ورفضًا قاطعًا لاستخدام القوة المفرطة لسحق كرامة الإنسان. هذه القصص المؤثرة قادرة على تعميق إدراك الأمة العربية بحقيقة العدو، وتعزيز قدرتها على الصمود والتصدي له ببسالة.

اليوم، أقدم لكم قصة مؤثرة للأسيرة الفلسطينية عائشة عودة. بينما كنت أتعمق في قراءة تفاصيل معاناتها المروعة، شعرت بوجع غائر يخترق قلبي. يا لهول ما عانته هذه الفتاة الشجاعة من تعذيب وحشي!

بعد الانتهاء من قراءة روايتها، انتابني شعور بالتقدير العميق لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي جعلت تحرير الأسيرات والأطفال على رأس أولوياتها بعد معركة "طوفان الأقصى". هذا الموقف النبيل يعكس قيمًا أخلاقية رفيعة. في المقابل، كشفت هذه الأحداث عن زيف ادعاءات الغرب بحماية المرأة. فالغرب يتستر على جرائم جيش الاحتلال أو يقبل بها، وهو الجيش الذي يدعي تمثيل الحضارة الغربية وأنه لا يقهر. لكنه في الواقع يستخدم قوته الغاشمة لتعذيب فتاة عارية من السلاح بكل أنواع العذاب.

تصف عائشة المحقق الإسرائيلي الذي عذبها بأنه "الغول" المرعب الذي كانت تسمع عنه في حكايات الطفولة. عندما كانت تصرخ من شدة الألم، كانت صرخاتها تزيد من هستيرياه، فينهال عليها بالضرب المهين بالسوط على كل جزء من جسدها، بكل وحشية وشراسة. لم يتركها إلا وهي كومة هامدة من الرماد، جسد بلا حراك.

وطن تحت الحصار

كانت أمنية عائشة عودة الوحيدة ألا ترى والدتها تبكي أبدًا.. لكن اعتقالها تحول إلى فاجعة حقيقية للأم المكلومة، التي حاولت الدفاع عن ابنتها ببسالة، ولكن دون جدوى، عندما اقتحم الجنود منزلهم!

قبل هذا المشهد المأساوي بلحظات، اتخذت عائشة قرارًا مصيريًا، وتخلت عن أحلامها الوردية بالسفر والاستكشاف، واستبدلتها بحلم أسمى، وهو البقاء في وطنها ومواجهة العدو بكل قوة وإصرار، وخوض غمار المجهول مهما كانت التحديات.

بعد ذلك المشهد الموجع، وبينما كانت تجلس في السيارة الإسرائيلية التي اقتادتها إلى السجن، كانت ذكريات الوطن الحبيب وذكريات عائلتها التي عانت من مذبحة دير ياسين تتدفق في ذهنها كالسيل. قالت عائشة لنفسها: "اصمدي يا عائشة.. كوني مثالًا يحتذى به في الصمود والثبات. الرجال ليسوا أكثر قوة وعزيمة من النساء.. سأصمد وأواجه كل الاحتمالات، فالاحتلال هو الشر المطلق، وما دونه هو شر يمكن احتماله!".

الكف ينتصر على المخرز

واجهت عائشة غرور جنود الاحتلال بكل شجاعة طوال الطريق. وعندما وصلت إلى مركز التحقيق، لم تفلح أساليبهم الدنيئة من صفع وركل وبصق وكلمات نابية في كسر إرادتها أو إجبارها على النطق بكلمة واحدة. فقد عزمت أمرها على المواجهة بكل قوة.

سألها المحقق باستخفاف: "هل يستطيع الكف أن يتحدى المخرز؟!". فأجابت بعزيمة: "نعم، يستطيع". وقالت في نفسها: "ها أنا ذا، الكف الذي يواجه المخرز في غرفة التحقيق، في مواجهة المسؤول الإسرائيلي والجنود المحيطين به.. وحدي أنا بينهم، وأنا نِدّ لهم.. هذا الإحساس يملأني بمسؤولية حمل قضية شعبي.. نعم، أنا الآن وحيدة أتعرض للضرب والإهانات.. أقدام كثيرة تنهال علي بالركل.. لكنني أحول كل ركلة وصفعة إلى شحنة إضافية من الصمود والتحدي، وأردد في نفسي: هذا هو ثمن المواجهة".

تضيف عائشة: "إن الشعور بالتفوق عليهم عزز من ثقتي بنفسي؛ فتوحدت تمامًا مع قضية شعبي العادلة".

انتظار فرج الله

استمر الضرب الوحشي بهدف إلحاق أكبر قدر ممكن من الألم. استخدم الجنود أساليب تعذيب وحشية لم يعرفها العالم من قبل.. وكانت عائشة كما وصفت نفسها، شخصًا محاصرًا بفيضانات هادرة، لا يملك إلا أن ينتظر فرج الله.

أما المحقق الإسرائيلي الذي كان يعذبها، فقد وصفته بأنه "الغول" المرعب في قصص الطفولة المخيفة. وعندما كانت تصرخ من شدة الألم، كانت صرخاتها تزيد من وحشيته، فينهال عليها بالضرب بالسوط على كل جزء من جسدها كيانا لا يرحم، فلم يتركها إلا كومة هامدة من الرماد، جسدًا مسجى بلا حراك.

تقول عائشة عن تلك اللحظة: "كان تفكيري كله متمركزًا على الألم الذي كان يشتعل في جسدي كالنار في الهشيم. لم أعد أشعر بالوقت، ولم يكن هناك أي شيء سوى الألم. هددني المحقق بأنه سيجعلني عمياء أو مشلولة أو مجنونة، فتملكني الخوف، وتساءلت في ذهني: ماذا سيحدث لأمي لو أصبحتُ كذلك؟!".

عندها تذكرت بطلة المقاومة الجزائرية جميلة بوحيرد، وقالت لنفسها: "لقد تعرضت جميلة للتعذيب، لكنها لم تفقد عقلها. فلماذا أفقد عقلي أنا؟! اصمدي يا عائشة.. إنها مسألة صبر وعزيمة.. ونحن على استعداد لدفع الثمن؛ لأن الاحتلال هو الشر المطلق".

توضح عائشة: "كنت في دوامة من الصراع والمعاناة، وأصوات التعذيب القادمة من الغرفة المجاورة كانت تمزق أعصابي كمنشار يقطع جذع شجرة.. إنه الحصار والقهر الذي لا مفر منه.. إنه الجحيم بعينه".

عندما هددها المحققون بإحضار والدتها وزوجة أخيها وتعذيبهما أمام عينيها، تجمد الدم في عروقها من شدة الرعب. قالت لنفسها: "يا للكارثة إذا أحضروهما وعذبوهما! لن أستطيع تحمل ذلك.. قد أفقد عقلي دون أن يلمسني أحد.. يا إلهي، أي نوع من البشر هؤلاء؟ أي قسوة تختبئ في عقولهم وقلوبهم؟".

في تلك اللحظة، اتخذت قرارًا بالاعتراف، وقالت لهم: "ألستم محتلين؟ فهل تتوقعون أن نرميكم بالورود بدلًا من القنابل؟ نعم، أنا من وضعت القنبلة.. إنه أقل ما يمكنني فعله من أجل وطني وشعبي".

الإحساس بالذنب وخيبة الأمل!

لكن الاحتلال لا يكتفي باعتراف الشخص بذنبه.. بل يريد الحصول على كل أسرار المقاومة. لذلك استمر التعذيب والتهديد، إلى أن اضطرت عائشة للاعتراف بمكان مخزن الأسلحة، وهذا الاعتراف سبب لها شعورًا مريرًا بالهزيمة.

انفجر سؤال في داخلها: "ما الذي فعلته؟ أردت أن أتحدى.. فاعترفت على مخزن الأسلحة، وهذا سيؤدي إلى تدمير البيت". وأضافت: "قبل ذلك اعترفت على عملية سأحكم عليها بالسجن المؤبد".

وهنا بكت بحرقة.. تدفقت الدموع كالنهر الجاري.. كأنها تغتسل في بحر من الدموع.

قال لها المحقق بصلف وغطرسة: "يجب أن تفكري في عبثية أفعالكم.. فماذا يمكن أن تفعل قنبلتك الصغيرة في دولة إسرائيل القوية التي هزمت كل الجيوش العربية في ستة أيام؟!".

ردت عائشة: "صحيح أن قنبلتي وحدها لن تستطيع أن تفعل شيئًا في دولتكم القوية.. ولكن هل تستطيع دولتكم أن تتحمل قنبلة من كل واحد في شعبنا؟!".

وقالت لنفسها: "إذن معادلتي الجديدة هي: قنبلة من كل فلسطيني لمواجهة الدولة القوية المتعجرفة".

أما أنا، فقد أثارت هذه الفكرة خيالي، وأعتقد أن كل أسير في السجون الإسرائيلية قادر على أن يبتكر فكرة جديدة تساهم في تطوير الكفاح. هذه الدولة المغرورة بقوتها وبدعم الولايات المتحدة لن تستطيع أن تقف في وجه شعب يفكر ويقاوم ويبدع ويبتكر.

الشجرة تنبت فروعًا جديدة!

في زنزانة العزل، رسمت عائشة شجرة قُطعت فروعها؛ ثم أنبتت فروعًا جديدة، وكتبت تحتها: "ستنبت فروعًا يانعة ما دامت جذورها حية وعميقة في الأرض".

وكتبت أيضًا أبياتًا للشاعر محمود درويش:

"سدوا عليّ النور في زنزانة.. فتوهجت في القلب شمس مشاعلي.

كتبوا على الجدران رقم بطاقتي.. فنما على الجدران مرج سنابل".

توضح تجربة عائشة أن التعذيب في إسرائيل ليس مجرد وسيلة لانتزاع الاعترافات والمعلومات، بل هو عمل انتقامي محض، يمنح ضباط الاحتلال شعورًا ساديًا بالمتعة وهم يشاهدون الأسير يتألم. لذلك سألت عائشة المحقق: "يبدو أن تعذيب الناس هواية تسعدك؟!".

لقد اعترفت بكل شيء، وأعطتهم كل المعلومات، وقادتهم إلى مخزن الأسلحة، فنسفوا بيتها وشردوا أهلها. لكن التعذيب استمر بأساليب وحشية، كأنهم وحوش مفترسة تنهش فريستها، ولا تعبأ بصراخها أو أوجاعها.

سحق الكرامة

تقول عائشة: "لقد استخدموا أساليب تعذيب تهدف إلى سحق كرامتي. الهزائم العربية كانت حاضرة بقوة في ذهني، ورأيتها تتجسد في هذا الوضع وفي تلك اللحظات. فتولد في روحي رفض قاطع للهزائم العربية بإرادة مقاومة مطلقة: إذا لم يقاوم العرب هذا الظلم، فسأبدأ أنا في هذه اللحظة بكل قوة وإرادة في مواجهة الظلم، وأعلن رفضي المطلق للاستسلام".

صرخت وكنت كالذبيح الذي ترفرف فيه إرادة الحياة قبل أن تفارقه قسرًا.. غادرت روحي الجسد والمكان والزمان.. هربت روحي وانتقلت إلى العالم الآخر.. متّ، ثم فرحت بعودتي للحياة، وهتفت روحي: انتصرت إرادتي.. إنني أُولد من جديد.

يا لها من مفارقة: أنا سعيدة وهم خائفون.. صرخت في أعماقي: لقد انتصرت وقد هزموا.. نعم، كانوا خائفين.. إنهم يخشون أن أصبح شهيدة".

مع ذلك، استمر التعذيب وهددوها باستخدام الكهرباء. فتذكرت جميلة بوحيرد التي خاضت تجربة التعذيب بالكهرباء، وفكرت: "أنا لست أقل منها، فلأجربها". وقالت للمحقق: "إذا كانوا يريدون موتي، فليأتوا بسرعة لاستخدام الكهرباء؛ فأنا أرغب في الموت.. أريد أن أموت".

لكن بعد أيام، سمعت أخبارًا عن عمليات فدائية جديدة، فقالت لنفسها: "ها هو شعبنا ينهض بنسائه ورجاله كعملاق جبار، وسيندم الاحتلال ويرحل.. لن يطول ليلنا وستشرق شمس حريتنا؛ ونساء فلسطين هن ورود الحرية التي تتفتح وتنهض في رام الله والقدس وغزة ونابلس".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة